اليوم حنتكلموا على فكر الحركة الإنسانية في كتابات يوسف القويري، هذا الفكر اللي ظهر بشكل واضح في عدة مقالات ليه .. لكن كان واضح جداً في كتابه الجميل "من مفكرة رجل لم يولد" ، وهو كتاب يحكي على مذكرات رجل يعيش في عام 2565 .. في شكل أقرب لروايات وقصص الخيال العلمي.
وحني طبعاً نعرفوا أن جوهر فكر الحركة الإنسانية .. أو ما يعرف بالهيومانيزم موفمينت.. هي توحيد الجنس البشري وإتحاده في بوتقة ثقافية وفكرية وسياسية واحدة، وهو اللي كان حاصل بالفعل في عالم هاذا الرجل اللي كان القويري يحكي في مذكراته ... وفي الصفحة 70 نقروا بأن بطل القصة يحكي لزوجته عن الجسر الواصل بين أفريقيا وأوروبا .. وكيف إن الجسر هذا وحدّ غرب العالم بشرقه .. وكيف إن الجسر هذا كان نتاج وحدة الجنس البشري، وهي رمزية قوية ينتصر فيها القويري للخطاب الإنساني على خطاب صراع الحضارات.
أما العالم اللي يعيش فيه بطل القصة متاع القويري فهو عالم متقدّم، عالم من أهم سماته إن العلم يلعب فيه دور رئيسي في تسييره، وهذا بطبيعة الحال شيء مفهوم بإعتبار إن العلم في فكر القويري فكرة جوهرية وهو مفتاح التقدم .. لهذا حنشوفوا في المذكرات إن العلماء هم اللي ديما ليهم اليد العليا سواء في النقاشات أو حتى من خلال مراكزهم العلمية اللي تلعب دور مركزي في قيادة هذا العالم وتغذيته المستمرة بالأفكار اللي تأدي بيه للتقدم.
وأيضاً نلاحظوا شخصيات ومراكز علمية كـ "علي الغاتي" عضو المجلس العالمي للغات، وكاترين الدرناوي" في معهد الأبحاث البيولوجية والدكتور مراد أستاذ الفيزياء بجامعة طبرق.. وغيرهم ...................... وأيضاً رمزية تسمية الأماكن بأسمائهم كتحويل إسم جبل نفوسة إلى أسم جبل حكيم مسعود نسبة لأحد العلماء في رمزية لتقدير مكانة العلماء في هذا العالم.
أيضاً من أحد أهم أفكار القويري الإنسانية .. واللي تتطابق مع الحركة الإنسانية هي عداءه للحروب وتجارة السلاح والتسلح النووي.. وهذا بان بوضوح في عدة مقالات .. زي مثلاً لما حكي على إن عالم كتاب "من مفكرة رجل لم يولد" تم فيه صهر جميع الدبابات والمصفحات والعربات الحربية وتم تحويلها لماكينات تشغيل صناعي وقطارات وآلات حفر.. وإنه تم إلغاء الجيوش وإعدام المخزون النووي وتوجيه الذرة نحو خدمة السلم ..
أيضاً في مكان تاني وفي مقالته آثار القنبلة في كتاب " في الأدب والحياة" ، فيقول القويري محذراً من كارثة الحرب الذرية : " إن المؤسسات العالمية المجندة لخدمة السلم ، وقادة الفكر والأدباء، والكتاب، وكل الذين يحملون عقولاً مستنيرة في عصرنا الحديث يبذلون أقصى جهودهم لتوعية الآخريين، الذين لم تتح لهم الظروف فهم طبيعة الحرب الذرية، إلى مدى الكوارث التي تجلبها هذه الحرب للجنس البشري"
نقطة جوهرية تانية يطرحها القويري واللي هيا اللغة .. اللغة عند القويري ليها علاقة كبيرة بالتقدم .. ويوضح في مقالته "اللغة والذئاب" إن اللغة بالفعل تتطور وتعين على التطور.. أما في عالم القويري المستقبلي.. فهما وصلوا لنقطة إن الإنسانية وحدت لغتها .. وهادي فكرة داعبت مخيلة كل فلاسفة ومفكري الإتجاه الإنساني.. بإعتبار اللغة قد تكون أحد أسباب توحيد البشرية وتقليل الصراعات بينها وإنهاء النزعة القومية.
ولو جينا نتكلموا على النزعة القومية عند القويري.. فالقويري من أشد أعداء النزعة القومية ويرى أن فكرة التفاعل بين الثقافات الإنسانية المعاصرة هي من أهم الأفكار التي يجب تطبيقها ..
يقول القويري في مقالة "حوار مع ياقة بيضاء" في كتاب "على مرمى البصر" مثلاً : " ومع ذلك، فقد أشرت إلى عنصر بالغ الأهمية هو التداخل الحضاري الذي يتم على نطاق عالمنا بأسره، وأنت ترى الآن أنه ليس هناك على سطح الأرض ثقافة قومية متقوقعة، وإذا ما كنت موجودة، فهي موجودة فقط في أرشيف الحضارات المنقرضة، فاية حضارة قومية حية وحاضرة الآن حضوراً تاريخياً هي بالضرورة حضارة متفاعلة مع بقية الحضارات الإنسانية"
نقطة تانية مهمة .. لكن خلينا نرجعوا لعالم القويري المستقبلي.. اللي هوا قمة التقدم والحداثة.. واللي يقوده العلم والتكنولوجيا ويتوحد فيه البشر بشكل متكامل.. لكن رغم هذا كله .. هذا العالم ما فقدش أصالته وجماله.. وهذا اللي حنلاحظه في تفاصيل صغيرة زي مثلاً إن أسم مدينة غات ولّى لإسم أمازيغي اللي هوا غرزيل زي ما نقروا في الصفحة 63 .. وهاذا يوضحلك أكثر من حاجة عند القويري.. أول حاجة إن القويري ما عنداش أي مشكلة في التنوع الثقافي وحرية التعبير عليه .
وأيضاً نقطة تانية وهي إنه ما عندناش عداء مع التنوع التراثي والتاريخي .. وما يطالبش بمحوه أو إلغاءه على حساب التغريب.. بل بالعكس.. يأكد على دمج المستقبل مع أصالة الماضي..
أيضاً القويري يشدد على قيمة الجمال مع التقدم.. فهوا يشوف أن لابد من المحافظة على خيط القيمة الجمالية اللي هي زي ما يقول "قيمة إنسانية صرفة" .. حتى أنه يقول أن المدن الحديثة مدن مفتقرة لعطر الوقت والتاريخ.. وإن المدن العريقة مدن تحسس فينا بهذه المشاعر فنحس ببشريتها..
والجمال أيضاً يكمن في الفن، وحتلقى عالم القويري المستقبلي مكتض بالسينيمات والعروض الموسيقة والحفلات .. وحتى سكان هذا العالم ديما عندهم طقس روتيني الذهاب لهذه الأماكن زي مثلاً قرية الباروني اللي ذكرها القويري واللي فيها أربع دور سينما حديثة. لكن على الرغم من تشديد القويري على أهمية الجمال والفن والأصالة .. لكن في كتابه هذا .. ينتقد بشدة الخطاب المبني على العاطفة.. وتأجيج العواطف.. ويقول في صفحة 76 :
" فأنا أعتقد ـ ومعي أغلبية الناس ـ أن الخطيب مجرّد صوت هستيري هائج مسلوب المعاني، وكلما كان سطحياً في أفكاره، التي يرفع عقيرته بها، كلما كان ناجحاً ، وقريباً من المستمعين !"......ولهذا ففي عالم القويري ما فيش خطباء .. سواء خطباء المنابر الدينية أو خطباء المنابر السياسية .. بل محاضرات معتمدة على الأفكار وجمال العرض وعمقه.. وهو زي ما قال القويري .. يعبر عن تطوّر الحياة العقلية للجيل الراهن.
,ولهذا حنلاحظوا أيضاً ان التطور في عالم القويري المستقبلي مش تقدم علمي أو تقني بس.. بل حتى تطوّر من ناحية القيم الأخلاقية .. اللي يراها ربما بعض المفكرين أو الأيدولوجيات جامدة وثابتة .. وهذا اللي نلاحظوه في الكتاب وهو ينتقد مثلاً الناس اللي تفضل جنس مولود على آخر .. وينتقدها كقيمة أخلاقية متخلفة .. أيضاً نقده لفكرة إرتباط الملابس النسائية بالأخلاق.. يقول القويري في صفحة 102 من كتاب "من مفكرة رجل لم يولد" : " كانت الملاية اللف ، واليشمك والسفساري والفراشية والعباءة الثقيلة والرداء المخطط وغيرها من الأزياء مظهراً للإعتقادات الأخلاقية والذوق السائد."
نجو توا لشيء جوهري تاني في فكر الحركة الإنسانية واللي هوا التنوع الفكري وحرية المعتقد والأديان .. وعلى الرغم من أن الدين ما أنذكرش بكل في عالم القويري المستقبلي .. لكن رمزية أسماء الشخصيات زي شخصية "كاثرين الدرناوي" أو إسم "وجدي آتون" .. يوضحلك شكل الخلفيات الثقافية والدينية المتنوعة لسكان هذا العالم .. وتعايشهم بشكل سلمي وسط أجواء من قبول الآخر.
أيضاً في هذا العالم .. حتلقى نظرة تقدمية جداً وداعمة بشكل كامل لحقوق المرأة وإستقلاليتها .. وهذا كان واضح جداً من خلال الشخصيات المتنوعة بس.. بل حتى من خلال علاقة بطل الأحداث بزوجته وبنتهم .. وحواراتهم .. وخصوصاً بنته اللي كانت تتكلم مع والدها بكل أريحية في مشاكلها وعلاقاتها العاطفية والحياتية من غير أي خوف أو خشية من قمع !
وأخيراً .. آخر حاجة .. هي التفكير الإيجابي .. الأمل .. التفاؤل بالمستقبل .. وهذا جوهر فكر الحركة الإنسانية اللي تؤمن بأن الإنسان قادر على المضي دوماً للأمام .. لعالم أفضل دوماً .. يقول القويري في نهاية كتابه المستقبلي : " أجمل الأيام لم تأت بعد " ..
ويقول في الصفحة 124 : " لا ريب أننا تقدمنا كثيراً ، وأصبحنا أفضل ألف مرة مما كان عليه أسلافنا، ولكن هذا التقدم الهائل المتعدد المظاهر لا يزال يواجه متاعب جوهرية".. بالزبط .. الإنتصار ديما للتقدم .. مع عدم إغفال أو إنكار المشاكل والتحديات والسلبيات اللي تواجه هذه المسيرة.. هذا هو لب فكر يوسف القويري .. والفكر التنويري الإنساني .. ولب المسار التاريخي.. يختم القويري : " الجديد يحتاح دائماً وقت لكي يرسخ ويمد جذوره " .